عودة الاغتيالات للعراق تهدد الأمن الهش وتنذر بعودة الفوضى

محمد صادق أمين (خاص)

1٬682

تشهد العاصمة بغداد، وغالبية المحافظات العراقية الأخرى، حالةً من الاستتباب الأمني النسبي، خصوصاً بعد تحرير المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش عام 2014، بعد سنين عجاف أعقبت الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث تحولت خلاله أخبار القتل والاغتيال والاختطاف والتفجيرات إلى جزء من يوميات الشارع العراقي، وبلغت ذروتها بين عامي 2005 – 2008.

لكن سلسلة اغتيالات منظّمة شهدتها بغداد ومحافظات رئيسية أخرى، بدأت أنباؤها تتواتر وتُثير مخاوف الشارع من عودة موجة عنف جديدة تهدد الأمن الهش في البلاد، ومسلسل اغتيالات تقف وراءه جهات يرى مراقبون أنها ذات لون أيديولوجي معيّن تخدم أجندات إقليمية، مستدلّين على ذلك بمجموعة قرائن؛ أهمها طريقة الاغتيال وفئة الأشخاص المستهدفين.

مثقفون بمرمى النار

اللافت أن المشترَك في الاغتيالات المتسلسلة التي عادت للشارع العراقي هو استهداف فئة المثقفين من إعلاميين وكتاب وأدباء وفنانين، بدأت في سبتمبر 2017 باغتيال الفنان والممثل المسرحي الشاب كرار نوشي، بمنطقة شارع فلسطين في بغداد، بعد اعتقاله من قبل جهة مجهولة ليومين، عُثر بعدها على جثته ممزّقة وملقاة في مكبّ للنفايات وعليها علامات التعذيب.

وآخر الاغتيالات طالت الروائي العراقي علاء مشذوب (51 عاماً)، في محافظة كربلاء جنوبي العراق، حيث أطلق مسلحون النار عليه من مسافة قريبة، يوم السبت 2 فبراير 2019، وأردوه قتيلاً.

وكانت لمشذوب جملة مواقف ضد الطائفية، وأصدر عام 2008 كتابهعن الوطن والوطنية، الذي تضمّن رؤيته حول الواقع السياسي، ونشر بعدها عدّة مجموعات قصصية، وشارك بالمظاهرات التي طالبت بحقوق الشعب المسلوبة من فرص عمل وخدمات.

الخليج أونلاينرصد من خلال وسائل الإعلام المحلية تعرّض العديد من الفنانين والصحفيين للتهديد بالقتل، في حين اعتُقل بعضهم خلال الفترة الممتدة من سبتمبر 2017 لغاية ديسمبر 2018، وقد أبلغ بعضهم السلطات ووسائل الإعلام بالتهديد الذي وصل إليهم، في حين أكّد مصدر في نقابة الصحفيين العراقيين أن التهديدات التي لا يتم إبلاغ السلطات أو وسائل الإعلام عنها تصل للضعف أو أكثر.

وقال مصدر لـالخليج أونلاين، طلب عدم ذكر اسمه: إنجهات مجهولة ترسل رسائل تهديد للصحفيّين الذين تُنشر لهم أي منشورات فيها طابع الجرأة؛ مثل الحديث عن ملفات الفساد، أو التعرّض للجماعات المسلحة المختلفة بأي شكل من أشكال النقد، أو تناول موضوع فيه آراء ليبرالية تدعو إلى مدنيّة المجتمع وتحييد الدين“.

وأضاف المصدر أنالجهات التي تعتقل الصحفيين تستخدم وسائل المليشيات في الاعتقال؛ كالخطف من الشارع، أو انتظار الشخص بعد خروجه من محل عمله، في سيطرة أمنية وهمية، وأثناء الاعتقال يتم الاستجواب باسم أجهزة الأمن، وبحسب أشخاص أُفرج عنهم ولم تتم تصفيتهم فإن طبيعة الأسئلة التي وُجّهت لهم تشي بأن القائم على التحقيق جهة رسمية“.

وتابع: “أبرز مثال على ذلك كان اعتقال الصحفية أفراح شوقي، في يناير 2017، حيث احتُجزت لمدة 9 أيام من قبل أفراد مجموعة مجهولة قالوا إنهم من جهات استخبارية تابعة للحكومة العراقية، تخلّلت فترة الاحتجاز جلسات تحقيق حول نشاطها الصحفي وكتاباتها، وبعد إطلاق سراحها غادرت البلاد وطلبت اللجوء في إحدى الدول الأوروبية“.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية رفعت تصنيف الخطورة في العراق إلى الدرجة الرابعة، كما حذّرت وزارة الخارجية في رسالة نشرتها على موقعها الإلكتروني، في 17 أغسطس 2018، الأمريكيين من أنهم معرّضون للعنف أو الخطف في ظل انتشار جماعات إرهابية في العديد من المدن التي تهاجم المدنيين وقوات الأمن العراقية، لافتةً إلى أن قدرتها على توفير الحماية الروتينية العاجلة للمواطنين ستكون محدودة.

يُشار إلى أن مرصد الحرّيات الصحفية في العراق ذكر، في بيان نشره يوم 13 سبتمبر 2018، أن العشرات من الصحفيين الأجانب غادروا العراق؛ إثر تحذيرات من دولهم تشير إلى وجود خطر على حياتهم. وأضاف أن عدداً من وسائل الإعلام الأجنبية تلقّت تهديدات مباشرة من جانب مليشيات مسلّحة وجِهات سياسية لم تسمّها.

استهداف النشطاء

شهر أغسطس من العام الماضي كان شهر الاغتيالات بامتياز في العراق، حيث بدأ الشهر بنبأ اغتيال الناشطة سعاد العلي في مدينة البصرة جنوبي العراق، على يد مسلحين بواسطة مسدس كاتم.

وعُرفت القتيلة بظهورها المكثّف في التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها مدينة البصرة، حيث طالبت العلي عبر منظّمتها المدنية التي تُديرهاود العالمبالكشف عن المتورّطين في تنفيذ عمليات قتل واغتيال وتعذيب الناشطين في الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالخدمات وإيجاد فرص عمل للشباب العاطلين.

كما شهد الشهر ذاته وفاة مقدِّمة البرامج العراقية وطبيبة التجميل وسفيرة النوايا الحسنة للمنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان والسلام، رفيف فاضل الياسري، في ظروف غامضة أثارت الكثير من الجدل.

وقد تضاربت الأنباء حول سبب وفاة خبيرة التجميل والناشطة النسوية المعروفة؛ فبينما تشير الرواية الرسمية إلى أن وفاتها جاءت بسبب تسمّم نتج عن تناول جرعة دوائية زائدة، تحدثت مصادر إعلامية محلية ونشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن وفاتها جاءت نتيجة اغتيال مدبَّر بأسلوب مخابراتي، إثر خلاف مع القيادي المسيحي في مليشيا الحشد الشعبي، ريان الكلداني.

وبذات الطريقة وبنفس الظروف الغامضة توفّيت خبيرة التجميل رشا الحسن، في الأسبوع التالي لوفاة زميلتها الياسري، ودفعت وفاة خبيرتي التجميل إلى فتح باب التكهّنات واسعاً بشأن ملابسات موتهما، حيث أكد ناشطون وجود خطط تصفية تنفذها جهات شيعية متشددة موالية لإيران.

وبعد نحو شهر من اغتيال رشا الحسن، اغتيلت ملكة جمال العراق السابقة وعارضة الأزياء، تارة فارس، بثلاث طلقات نارية، اثنتان في الرأس وواحدة في منطقة الصدر، وهذه العملية جاءت بعد أيام من تلقّي الفارس تهديدات من زعيم إحدى المليشيات الشيعية إثر رفضها الزواج منه.

إسكات المعارضين

الناشط الحقوقي في منظمة حمورابي العراقية لحقوق الإنسان، عمار الربيعي، أكد أن عمليات الاغتيال التي تشهدها البلاد تأتي على خلفية سياسية ودينية.

وقال الربيعي لـالخليج أونلاين“: إنجهات شيعية متشددة ترصد الوسط الثقافي العراقي ونشطاء المجتمع المدني، وتتخذ من الاغتيال وسيلة لإخراس الأوساط الاجتماعية التي بدأت تتململ اعتراضاً على الأوضاع القائمة وما فيها من تقييد للحريات وانتهاك لحقوق الإنسان، وفوق كل هذا وذاك تراجع الخدمات وتغوّل الفساد“.

وأشار الربيعي إلى أنمظاهرات البصرة كانت قمّة جبل الجليد الذي استنفر تلك المليشيات، خصوصاً بعد ظهور معارضة صريحة وواضحة لهيمنة دول إقليمية (لم يسمّها) على المشهد العراقي، وهو الأمر الذي لم يكن يجرؤ أحد على التصريح به علناً“.

العديد من الكتّاب والمثقفين والأدباء العراقيين ذهبوا في تفسير ظاهرة الاغتيالات إلى ما ذهب إليه الربيعي، متهمين إيران والمليشيات المرتبطة بها بتصفية أصوات المعارضة التي بدأت تطفو على سطح المشهد العراقي.

عملية اغتيال مشذوب أثارت موجة غضب وانتقادات شعبية، وأطلق ناشطو مواقع التواصل حملة واسعة، استخدموا فيها وسم ” #علاء_مشذوب“. وأدان الجريمةَ المركزُ العراقي لدعم حرية التعبير (حقوق)، وطالب السلطات بفتح تحقيق فعلي لتقديم الجناة للعدالة وبشكل عاجل.

وعلّق العديد من الكتاب والمثقفين على الجريمة، وقال الروائي العراقي المقيم بإسبانيا، محسن الرملي: “ويستمر اغتيال الأصوات العراقية الحرة في كل الأزمنة، الرحمة لروح علاء مشذوب واللعنة على قتلته، إذا لم تكشف الحكومة عن المجرمين ومحاسبتهم فهي شريكة لهم، أما نحن فمستمرون بالكتابة عن كل ما يزعج الجهل المقدس، وسوف يلد العراق 13 كاتباً جديداً مقابل الـ13 رصاصة التي اغتالت“.

الأديب والصحفي العراقي إياد الدليمي علّق على اغتيال مشذوب، عبرتويتربالقول: إنإيران تصفّي معارضي وجودها في العراق، وعلاء مشذوب ليس الأول ولن يكون الأخير، منتقداً أسلوب تعاطي السلطات العراقية مع ملف الاغتيالات.

من جهته سلّط الناشط جمال الحاكم الضوء على آخر منشور كتبه مشذوب، انتقد فيه قائد الثورة الإيرانيةالخمينيبشكل علني، واعتبر أن هذا المنشور كان سبباً في اغتياله.

عمليات الاغتيال نشرت الخوف خلال السنوات الماضية في أرجاء العراق، وبحسب مراقبين فإن ما يثير الرعب في الشارع اليوم هو الخشية من عودة الفوضى الأمنية التي تستغلها مافيات الجريمة المنظمة لتنفيذ جرائم الخطف والابتزاز التي تراجعت بشكل كبير خلال الأعوام القليلة الماضية، في ظل عجز تعانيه الأجهزة الأمنية التي ينخر الفساد في جسدها.

لا يوجد تعليقات.