الجزائر: من دولة الثورة إلى دولة الشعب

2٬384

المقدمة:

تعيش الجزائر الشقيقة منذ أكثر من شهرين حراكا شعبيا واسعا ومتواصلا انطلق من العاصمة وامتد إلى مدن أخرى حتى تجاوزت الجماهير المتجمعة في الشوارع والساحات العشرين مليونا.

لقد كان حراكا شعبيا سلميا لفت أنظار العالم بأسره لما تميز به من إصرار وتحد وتصاعد من ناحية وسلمية وحسن تنظيم ويقظة ضد أي انفلاتات أو اختراقات من ناحية أخرى.

ولم يكن الحراك وحده هو الفاعل الرئيسي الذي لفت الأنظار في الأحداث التي عرفها بلد المليون ونصف المليون شهيد، بل كان الجيش الشعبي الجزائري بدوره حاضرا بامتياز وبقوة في التطورات السياسية والاجتماعية المسجّلة، وتميز حضوره بدوره بالاستمرارية والتواصل والتأثير المؤكد على سير الأحداث.

الشرارة الأولى: رفض العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة:

بداية الأحداث كانت موجة الرفض الشعبي لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة بعدما قضى عشرين سنة في سدة الرئاسة، وقد كان الرئيس بوتفليقة في وضعية صحية حرجة منذ سنة 2013. وقد بدأ التململ الشعبي منذ ترشحه إلى العهدة الرابعة سنة 2014 وهو في حالته الصحية المتدهورة. إنّ ترشح السيد بوتفليقة للعهدة الرابعة حسب أهم الفاعلين السياسيين ضرورة وطنية لما يمثله من توازن بين مختلف مكونات الطبقة السياسية ولما يضمنه وجوده في سدة الرئاسة من سير طبيعي لدواليب الدولة مادامت مختلف القوى عارفة بأدوارها ومدركة لمهامها من جيش وحكومة وبرلمان وأحزاب السلطة (جبهة التحرير والتجمع الوطني). ولكن صبر الشعب نفذ مع تصاعد الأزمة الاقتصادية واستفحال ظاهر للفساد لدى جزء هام من رجال الأعمال النافذين بتواطؤ من الحاشية المقربة للرئيس. ولاشك في أن الجزائر كانت مستهدفة من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية المتعطشة للثروة النفطية والغازية الجزائرية وقلقة من دورها الإقليمي والقاري الرافض للتدخلات الأجنبية. ومما زاد في حساسية الأوضاع بالجزائر ما تشهده ليبيا من تطورات ومن أخطار التدخل الخارجي الأوروبي والعربي مما يهدد أمن المنطقة واستقرارها ويلوح بتصاعد مخاطر الإرهاب على الحدود الجزائرية مع كل من ليبيا وتونس. كان الرفض الشعبي لترشح السيد بوتفليقة لعهدة خامسة إذن  نابعا من الإحساس بأنالرئيسبات عاجزا جسديا عن الحضور الفاعل وأن هناك من يستغل وضعيته الصحية للحكم من وراء الستار خاصة أولئك المتمترسين حوله في القصر الرئاسي والمتهمين في أوساط واسعة من الطبقة السياسية ومن المجتمع بأنهم وراء تفشي الفساد والصفقات المشبوهة. وبالرغم مما شهدته الجزائر في عهد بوتفليقة من وئام ومن حريات خاصة في مجالات الإعلام والتعبير، فإن رياح التغيير الديمقراطي أخذت تهب شيئا فشيئا خاصة لدى الشباب في شعب يقل عمر أكثر من 50%من سكانه عن الثلاثين سنة. ولم يعد مقبولا لدى أوسع فئات الشعبرهنالرئاسة ورهنالرئيس حتى دعا البعض في بدايات الحراك إلىتحرير الرئيسوتركه يرتاح وينعم بالهدوء في شيخوخته وفي مرضه. فلما تم الإعلان عن الترشح لعهدة خامسة كانت الشرارةالحراكيةبديهية ومنتظرة ثم أخذت تتسع وتتصاعد لتصل إلى المطالبة بالتغيير الكامل ورفض كل المسؤولين المعروفين الذين عملوا مع الرئيس وتحملوا مسؤولية إدارة البلاد على الأقل طوال العهدة الرابعة. وشمل الأمر أشخاص ورؤساء البرلمان والحكومة والمجلس الدستوري وقادة الحزبين الحاكمين وحاشية الرئيس في القصر الجمهوري وعلى رأسهم شقيقه السعيد بوتفليقة ورفض مختلف الإجراءات التي تم اتخاذها بحثا عن حلول مقبولة قد ترضي الحراك من جهة وتحافظ على استقرار الدولة وتواصل النظام من ناحية أخرى.

الجيش الجزائري: جيش الدولة وجيش الشعب:

منذ حصول الجزائر على استقلالها برز الجيش الجزائري كإحدى القوى الأكثر تنظيما والأكثر تأثيرا في الحياة السياسية الجزائرية. لقد كان جيش التحرير هو القوة الضارية في وجه الاحتلال الفرنسي ومثّل الذراع العسكرية الثورية لجبهة التحرير والحارس الأمين لدولة الثورة. وهكذا لم تمض سوى بضعة سنوات ليتسلم قائد جيش التحرير الجزائري العقيد هواري بومدين السلطة بعد إزاحة أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة من الرئاسة.

وتواصل حكم ما يمكن تسميته دولةالثورةبحراسة منيعة من الجيش وقيادة سياسية من جبهة التحرير ومن يتحالف معها طوال عهود الرئاسات من بومدين وخليفته بن جديد ثم مجموعة الرؤساء في عشرية التسعينات الحزينة بدءا من الرئيس المغتال المرحوم محمد بوضياف إلى رئيس قدماء المجاهدين رضا الكافي إلى الرئيس اليامين زروال الذي بدأت الجزائر معه تستعيد أنفاسها وتلملم جراحها ثم جاء الرئيس بوتفليقة مدشنا عهدته الأولى بالوئام الوطني. وقد كانت كل هذه الفترة تحت أنظار الجيش وكان كل الرؤساء من قادة الثورة (المجاهدين) كما نص عليه الميثاق الجزائري.         

تجددت تركيبة الشعب الجزائر، بعد رحيل أغلب قادة الثورة،  لتصبح أغلبيته من الشباب الذين عاشوا في ظل الدولة بما فيها من مكاسب وإيجابيات وما عليها من عيوب وسلبيات، وأصبحت المطالب الشعبية الجوهرية تتمثل في المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية وفي تحقيق الانتقال الديمقراطي. وكان الجيش الجزائري الذي لعب دورا بارزا في اختيار مختلف الرؤساء من بومدين إلى بوتفليقة وفي المشاركة الفاعلة في دفة قيادة البلاد واعيا بالتحولات المجتمعية. وقد برزت صلب قيادات الجيش الجزائري بعض الخلافات بين بعض الأجهزة وبعض كبار المسؤولين في علاقة بتجاذبات الحكم وخاصة بالحاشية الرئاسية والحكومة والحزبين الحاكمين وبرجال الأعمال، وكذلك ببعض القوى المؤثرة خارجيا وأبرزها فرنسا والولايات المتحدة. لكن الخلافات لم تكن بالشكل الذي يهدد وحدة الجيش ولا بالثقل الذي يمكن أن يحول دون محافظة الجيش على دوره كحارس للدولة ومحافظ على استقرار النظام.

وهكذا كان الجيش بقيادة رئيس أركانه الجنرال قايد أحمد صالح متابعا بكل يقظة لتطورات الأحداث وماسكا بكل قوة بزمام تحمل المسؤولية في الموازنة الضرورية بين تفهم حراك الشعب وبين مستلزمات حماية الدولة وضمان النظام والاستقرار بالقدر الممكن من الجرعات التي تستجيب قدر المستطاع للمطالب الشعبية وتحفظ دون أي ارتباك مستلزمات النظام وحقوق الدولة.

وكما كانت مطالب الحراك متصاعدة بدءا برفض العهدة الخامسة وانتهاء بالمطالبة بالتغيير الشامل، كانت تدخلات قيادة الجيش متطورة ومتفاعلة بدءا من الرضا بترشح بوتفليقة لمدة سنة يتم خلالها إجراء إصلاحات دستورية وسياسية، إلى التخلي تماما عن الترشح والقبول بفترة انتقالية مع بقاء بوتفليقة لمدة سنة، إلى الدفع نحو استقالة الرئيس وتطبيق المواد 7 و 8 و 102 من الدستور لضمان الانتقال الدستوري والديمقراطي في آن مع الالتزام بالدفع نحو إنجاز إصلاحات تستجيب لتطلعات الشعب الجزائري الشاب المتدفق حيوية نحو إرساء أسس دولة جديدة تنتقل من إرث الثورة الجزائرية العظيمة ودور قادة الثورة المجاهدين في إدارة الحكم إلى دولة الشعب المؤتمن على إرث ثورته والمتطلع إلى ممارسة سيادته وإرادته والمحافظ الوطني الأمين على استقلال الجزائر وسيادتها وعزتها ومناعتها ورفض كل تدخل أجنبي في شؤونها وكل انحراف عن المطالب الديمقراطية وكل توظيف أجنبي أو داخلي وسيط وأي نوع من أنواع الاختراق لحراك الملايين من أبناء الجزائر الشامخة.

الجزائر الجديدة: دولة الديمقراطية والإصلاحات:

الآن، وقد تم تأمين سلامة الانتقال الدستوري بعد استقالة الرئيس بوتفليقة من خلال تولي السيد عبد القادر بن صالح منصب الرئاسة المؤقتة ليتم خلال فترة لا تتجاوز تسعين يوما تنظيم الانتخابات الرئاسية، يمكن التساؤل عن مآلات وتطورات الحراك الشعبي وكذلك عن أهم الإجراءات المنتظر اتخاذها خلال فترة الرئاسة المؤقتة لتأمين الاستجابة لأكثر ما يمكن من الانتظارات الشعبية.

وفي هذا السياق، نعتقد أن أحوال الحراك بع0د جمعة 12 أفريل 2019 (الجمعة الثامنة للحراك) التي شهدت اصطدامات واعتقالات، سوف تؤول إلى التهدئة وتسير إلى التفاعل مع المستجدات السياسية.

لقد أبرزت قيادة الجيش الجزائري خاصة، ومعه أغلب القوى السياسية الفاعلة في الحكم، قبولها بل واقتناعها بحق الشعب الجزائري في التغيير الديمقراطي وبشرعية مطالبه، ولكن مع التأكيد على ضرورة الالتزام بعدم مس أسس الدولة الجزائرية وتهديد مصالحها.

وقد تم خلال هذه الجمعة اكتشاف مجموعات متغلغلة وسط الجماهير تسعى إلى التصعيد واختراق الحراك والدفع به إلى العنف والصدام مع الجيش وقوات الأمن.

إن هذا الأمر خط أحمر في الجزائر المشبع شعبها وجيشها بالوطنية حد النخاع والمتشبث بسيادة الجزائر وأمنها دون هوادة.

هذا ولم يفت المتابعين ملاحظة أجواء الفرح والاستبشار لدى أغلب المشاركين في الحراك عند أي إجراء يتخذ منذ بداية الأحداث، كما لم يفتهم مغالاة البعض في التصعيد والرفض ومحاولة استغلال الحراك لفرض تغيير لصالح قوى لا تحظى بالقوة التمثيلية الشعبية التي تمكنها من تحقيق رغباتها عبر صناديق الاقتراع.

ومن ناحية أخرى تأكد الجميع أن الجيش يبقى هو القوة الأكثر تنظيما والأكثر فاعلية في المشهد الجزائري وأن لتنازلاته الشعبية حدود وطنية لا يمكن تجاوزها وعلى رأسها سلامة الدولة وسيادتها واستمراريتها وضمان أمنها واستقرارها.

كما أن الخطوات السياسية الإصلاحية في الفترة الانتقالية المنتظرة سوف تزيد حسب رأينا في الدفع إلى التهدئة. ومن أبرز هذه الخطوات إجراء إصلاحات في القانون الانتخابي وضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها والتأكيد على إنجاز تعديلات دستورية تفسح المجال لجرعات ديمقراطية تسير بالجزائر إلى التحول الديمقراطي المنتظر.

ومن ناحية أخرى يلوح بكل وضوح الانطلاق في عملية تطهير واسعة وتصفية التركة السلبية للوبيات الفساد والتي طالما كانت بعض قوى النخبة وأوسع الفئات الشعبية تلمح إليها بالغمز واللمز والهمس حتى فاجأ قائد أركان الجيش الجميع عندما أطلق عليها تسميةالعصابة” !!

نعم كانت مثل هذه التسمية من المحرمات رغم ترديدها سرا تقريبا لدى غالبية الشعب. ولكن يبدو أن الكيل قد طفح في الأسابيع الأخيرة عندما حاولت التحرك لإجهاض النفس الإصلاحي الذي تبنته القيادة الرسمية للجيش فتواطأ بعض أفراد الحاشية وبعض العناصر العسكرية خاصة من الجهاز الأمني لتطويق الإرادة الشعبية المعبر عنها في الحراك والخيار الإصلاحي المعبر عنه في قيادة الأركان.

وقد تم في الأثناء اعتقال بعض رجال الأعمال المتهمين بالفساد وإقالة بعض قادة الجيش المتهمين بالتواطؤ ووضع بعض النافذين من أفراد الحاشية المتهمين بمحاولات عرقلة التوجه الإصلاحي الديمقراطي.

ولا شك أن هذا يؤشر إلى احتمالات كبيرة بمحاكمة أفرادالعصابةعندما يحل أوان ذلك وربما تتهاوى بعض القوى التي تقف في ظل المشهد محاولة الالتفاف على الإرادة الشعبية العامة وعلى التفاعل الإيجابي للجيش مع هذا الحراك.

الخاتمة:

تمثل الجزائر قوة إقليمية وقارية على غاية من الأهمية وتعتبر إحدى حصون حماية أمن وسلامة المنطقة المغاربية خاصة والعربية والإفريقية عموما.

ولا شك أن للشعب الجزائري تطلعات مشروعية في التغيير الديمقراطي وفي إرساء أسس الجمهورية الثانية وبناء مقومات الجزائر الجديدة عبر إقامة ما سميناه دولة الشعب بعد حقبة ستين سنة من دولةالثورة“.

ولا شك أن هذا الانتقال سوف يشهد بعض الصعوبات وبعض الإرباكات، ولكن المؤكد أن شعب الجزائر وجيش الجزائر سوف يكونان بكل تأكيد أكبر ضمانة لتحقيق هذا الانتقال بكل مسؤولية ومن المؤكد أن هذه الروح الديمقراطية مع ضمانات المسؤولية ومقتضيات الوطنية سوف تهب للجزائر مزيدا من السلامة والاستقرار ومزيدا من التطور والازدهار.

المصدر : مركز الدراسات الاستراتيجي والدبلوماسية    

لا يوجد تعليقات.