لم يكن عام 2018 هو الأفضل بالنسبة للتجربة الاقتصادية التركية التي ينظر إليها باعتبارها أبرز تجربة اقتصادية في الشرق الأوسط منذ بداية الألفية الحالية، إذ شهد العام الماضي الكثير من التقلبات الاقتصادية؛ كان أبرزها الانهيار السريع للعملة المحلية، وذلك حينما تراجعت الليرة بنحو 47% مقابل الدولار دفعة واحدة، لكنها استطاعت التعافي بشكلٍ ما وتعافت قليلًا وأنهت العام منخفضة بنحو 30%. ومع بداية 2019 يتساءل الجميع هل سيعيش الاقتصاد التركي جولة جديدة من التقلبات في 2019؟
فمن خلال متابعة الأخبار الاقتصادية التركية مؤخرًا، يتضح وجود تضارب في المؤشرات، ففي الوقت الذي يكثر فيه الحديث الرسمي عن مواصلة مسيرة النمو، نجد البعض يتحدث عن ركود قد يضرب اقتصاد البلاد خلال هذا العام، وفي الوقت الذي تعاني فيه الليرة من هبوط مفاجئ؛ نجد صعودًا جديدًا للصادرات.
وخلال هذا التقرير سنحاول توضيح اتجاه الاقتصاد التركي، والسيناريو الأقرب لعام 2019 في ظل المعطيات الحالية المتضاربة إلى حد كبير.
فقدت 3% في ثاني أيام تداول 2019.. فهل تعيد الليرة مسلسل السقوط؟
ذكرنا أن تقلبات الليرة كانت أبرز ملامح العام الماضي، لكن استقرار العملة في نهاية العام جعلت البعض يتوقع أن هذه التقلبات قد انتهت، إلا أنه في ثاني أيام التداول هذا العام، واصلت الليرة رحلة التقلبات التي اتسمت بها العام الماضي، إذ تراجعت بما يزيد عن 3.5% خلال الجلسة، وهو الأمر الذي آثار مخاوف المستثمرين من أن تواصل العملة التركية مسلسل سقوط 2018.
الاقتصاد التركي
مؤشر الدولار الأمريكي مقابل الليرة خلال عام
يوضح المؤشر السابق حجم التقلبات الكبير في سعر الدولار الأمريكي مقابل الليرة التركية، وبرغم هدوء الأوضاع قليلًا بنهاية العام الماضي، يبقى اتجاه المؤشر نحو الصعود، وهذا الأمر ربما سيستمر خلال 2019 بسبب قوة الدولار المتوقعة بفعل رفع الفائدة الأمريكية، بالإضافة إلى أن عملات الأسواق الناشئة تتأثر أكثر من غيرها بالأزمات الاقتصادية، إذ يرى المحللون أن العام 2019 سيشهد الكثير من التوترات الاقتصادية العالمية، وهو ما سيضغط على عملات الأسواق الناشئة بشكل واضح.
وترى وكالة «فيتش» أن الضغوط الرئيسية التي عانت منها الأسواق الناشئة خلال 2018 سوف تستمر خلال 2019، وأبرز هذه الضغوط بحسب الوكالة الأمريكية للتصنيف هو تشديد السياسة النقدية الأمريكية، وقوة الدولار، ومخاطر التجارة العالمية، والنمو الاقتصادي، بينما ترجح أن يؤدي المزيد من ارتفاع الدولار والظروف المالية العالمية المتشددة إلى إعاقة تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة.
وتعاني الاقتصادات الناشئة عمومًا من ارتفاع الدولار مع زيادة معدلات الفائدة الأمريكية، وهو الأمر الذي يتسبب في جعل ديون تلك الأسواق أكثر تكلفة عند السداد، وهو ما يقود عملاتها المحلية إلى الهبوط، وأبرز هذه الأسواق السوق التركي بالطبع، لكن لا يمكن القول أن 2019 ستشهد تقلبات حادة للعملة التركية كما حدث العام الماضي، لكن من الصعب أيضًا القول بأنها ستشهد تحسنًا قويًّا وذلك بسبب الأوضاع العالمية، خاصة في النصف الأول.
هذا فيما يخص التأثيرات الخارجية، لكن فيما يخص التأثيرات الداخلية، فلا شك أن الانتخابات العامة التركية المزمع إقامتها في 31 مارس (آذار) القادم ستضغط كذلك على العملة المحلية، إذ أن أوقات الانتخابات عمومًا تشير إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي وهو ما يضيف حالة من التذبذب في سعر العملة خلال النصف الأول من 2019.
والسؤال: أين سيستقر النمو الاقتصادي؟
في 31 مارس 2017 قال رئيس الوزراء التركي ابن علي يلدريم: «إن بلاده حققت النمو الاقتصادي الأعلى في العالم خلال 2017»، واصفًا كفاح حكومته من أجل تحقيق هذا النمو بالتاريخي، لكن هذا النمو التاريخي لم يستمر كثيرًا، إذ أجبرت التقلبات التي حدثت في البلاد خلال 2018 الحكومة على خفض الكثير من توقعاتها للنمو في برنامجها الاقتصادي متوسط الأمد بنحو 2.3% في 2019، والذي يعد انخفاضًا من توقعات سابقة لنمو نسبته 5.5%، وهو خفض كبير في معدل النمو الاقتصادي، لكن من أي جاء الحديث عن الركود؟
في 10 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أظهرت بيانات صادرة عن معهد الإحصاء التركي، أن اقتصاد البلاد نما بنحو 1.6% على أساس سنوي في الربع الثالث من 2018، وهو نمو دون توقعات المحللين، إذ أشارت البيانات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي بعد التعديل في ضوء العوامل الموسمية والتقييم انكمش 1.1% في الربع الثالث مقارنة مع الربع السابق، وهو يكشف عن هبوط حاد يصل إلى الركود في أداء اقتصاد البلاد، وهو ما عزز حديث البعض عن أن الاقتصاد التركي قد يواجه ركودًا في 2019.
على الجانب الآخر يعتبر مؤشر مديري مشتريات الصناعات التحويلية أهم المؤشرات على أداء الاقتصاد، وهو الذي انكمش للشهر التاسع على التوالي في ديسمبر الماضي، مع استمرار تراجع الإنتاج والطلبيات الجديدة، وذلك بحسب مسح أجرته غرفة التجارة والصناعة في إسطنبول و«آي.إتش.إس ماركت»، وأظهر المسح أن مؤشر مديري المشتريات انخفض إلى 44.2 في ديسمبر الماضي من 44.7 في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وينظر كثير من الاقتصاديين إلى هذا المؤشر على أنه المعدل الحقيقي لحركة الاقتصاد، إذ يعتبر مستوى الخمسين نقطة هو الفاصل بين النمو والانكماش، وفي تركيا ظل المؤشر دون هذا المستوى للشهر التاسع على التوالي، كما سجل في سبتمبر (أيلول) الماضي، أدنى مستوى في نحو 10 أعوام، وهو الأمر الذي يلقي بظلال قاتمة على حركة الاقتصاد في 2019، وبحسب هذه الأرقام؛ يمكن القول بأن 2019 لن يكون الأفضل للاقتصاد التركي.
وفي سياق متصل، يمكن القول بأن قرار الحكومة مؤخرًا برفع معدل الأجور بنسبة قياسية بنحو 26%، قد يمنع البلاد من السقوط في الركود، وذلك لأن مثل هذا الإجراء سيعزز من النمو عن طريق الاستهلاك، لكن من غير المتوقع تحقيق قفزة قوية في النمو خلال هذا العام.
«محطم الإنجازات».. 2019 ربما لن يكون عام تفاقم «التضخم»
يعتبر التضخم أحد أكثر المشكلات الاقتصادية الملحة في تركيا، فهو أهم مؤشر يستخدمه المواطن للحكم على اقتصاد بلاده، فقد لا يهتم كثير من الأتراك بنسبة النمو والزيادة في الصادرات، وقد لا يشغلهم أيضًا التصنيف الائتماني أو معدل الفائدة، ولكن الأكيد أن ما يشغلهم دائمًا هو أسعار السلع التي يشترونها يوميًا هل ترتفع أم تنخفض؟ هذا هو الإنجاز الذي يعنيهم في المقام الأول، ففي حال فرضنا أن النمو الاقتصادي تجاوز 10% وواصلت الأسعار مسارها الصعودي، فبالتأكيد لن يعترف المواطن التركي بهذا الإنجاز، لكن إذا فرضنا أن معدل النمو أقل من 5% مع هبوط ملحوظ لأسعار السلع، فسيكون ذلك بالنسبة له إنجازًا كبيرًا.
هذا هو الأمر بالتحديد؛ فزيادة التضخم تجلب الكثير من عدم الاستقرار، بينما التراجع قد يضيف حالة من الرضا بين المواطنين، وبالرغم من تراجع التضخم في ديسمبر الماضي بحسب ما أظهرت بيانات رسمية، لكنه يظل مرتفعًا كثيرًا جدًا. إذ سجل 20.3% على أساس سنوي في ديسمبر، متراجعًا من ذروة 15 عامًا عندما تجاوز 25% في أكتوبر (تشرين الأول)، بينما واصل مؤشر أسعار المنتجين مستوياته القياسية فوق 30%، مسجلاً 33.64% في ديسمبر، بحسب بيانات معهد الإحصاءات التركي.
والتضخم في تركيا مؤشر حساس جدًا فقد سبق أن تجاوز كل توقعات الحكومة تقريبًا، ففي الوقت الذي كانت تتوقع البلاد أن ينهي 2017 عند معدل 10%، قفز فوق 15%، وبينما كانت الحكومة في انتظار انخفاض كبير في معدل التضخم خلال منتصف 2018، أنهى العام عند مستوى قياسي، لكن السؤال الآن لماذا لن يرتفع التضخم خلال 2019 لمستويات أكثر؟
ذكرنا أن المستويات الحالية مرتفعة جدًا بالطبع ومن غير المتوقع أن يشهد التضخم مستويات أعلى وذلك بسبب انكماش النمو والتخفيضات الضريبية والخصومات على المنتجات خوفًا من الركود، وهو ما سيمنع التضخم من قفزة جديدة خلال 2019، في حال لم تسجل الليرة مستويات جديدة متدنية بالطبع.
«خارطة طريق تجارية».. هكذا تحاول تركيا معالجة مشاكلها الاقتصادية
ربما ترى أن المعطيات السابقة تعطي انطباعًا سلبيًا عن الاقتصاد التركي في 2019، لكن على الجانب الآخر تعول الحكومة التركية على النمو الملحوظ في صادراتها لمواجهة هذه المشاكل، معتمدة في ذلك على الأرقام الإيجابية التي حققتها الصادرات خلال الأعوام الماضية، خاصة أن 2018 كان عامًا جيدًا للصادرات التركية، فبحسب ما أظهرت بيانات وزارة التجارة فإن العجز التجاري التركي هبط بنحو 28.4% في 2018 إلى 55 مليار دولار، مدعومًا بزيادة الصادرات وانخفاض الواردات، بينما تتوقع الوزارة أن يستمر العجز في التراجع خلال 2019.
وصعدت الصادرات التركية إلى 168.1 مليار دولار العام الماضي وذلك بارتفاع بنسبة 7.1% عن 2017، وهو أعلى مستوى للصادرات في تاريخ الجمهورية على أساس سنوي، وفي حال استمرت هذه الأرقام في النمو بهذا المعدل فإن البلاد قد تتمكن من تجاوز المشاكل المذكورة، خاصة أن خارطة الطريق التي تعتزم تركيا تطبيقها في المجال التجاري خلال 2019، تبدو واعدة.
فبحسب وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان، فإن وزارتها «أعدت خططها بما يتناسب مع أهداف الخطة الاقتصادية الجديدة، والتي تقوم على الموازنة والانضباط والتغيير»، إذ تستهدف الوزارة زيادة نسب صادرات المنتجات الصناعية العالية التقنية، وإثراء قطاع صادرات الخدمات، بحيث تضم التكنولوجيا والبرمجيات، بالإضافة إلى إيجاد علامات تجارية جديدة، وإزالة التعقيدات القانونية، وزيادة الرقمنة، وتسهيل الإجراءات الجمركية.
تسعى أنقرة لزيادة اعتمادها على السوق الأوروبية كونها هدفًا رئيسًا للصادرات التركية، كما أن قرب تلك السوق من تركيا يقلل تكلفة النقل، وتقدم الحكومة دعمًا سخيًا للمصدرين، بهدف مواصلة النمو القوي في الصادرات، لكن هذه الجهود تصطدم دائما بمعضلة أن كثيرًا من المنتجات التركية التي تصنع داخل تركيا بغرض التصدير، كثير من مكوناتها مستوردة من الخارج، وهو ما يعني أنه كلما ارتفعت الصادرات، تميل الواردات إلى اتباعها، لذلك فمن الصعب أن تسيطر تركيا على هذا الأمر بسهولة.
لا يوجد تعليقات.